الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
يعني أنه لا يَجبُ قبل الوقت. 169- قوله: (ولم يجدوا) وكان في المدينة خارجاً منها. 169- قوله: (من عند آخرهم) مختصر من أوَّلِهم إلى آخرهم، واختُلف في تَعداد الرجال فيه، وحمله الحافظ رحمه الله تعالى على تعدُّدِ الواقعة.
قلت: إنَّ المصنَّف رحمه الله تعالى ذَكَرَ فيها مسألة الأنجاس والآسار دون مسألة المياه كما اختاره الحافظ رحمه الله، فهذه ترجمةٌ تتعلق بالأشياء التي قد تتفقُ أن تقعَ في الماءَ، ثم تُفسِدُ الماء أو لا تفسده. وإنما جاء ذِكْرُ الماء تبعاً لكونه محلَّ الوقوع. أما مسألة المياه أصالة فسيجيء ذكره. وذَكَرَ هذه الأشياء هناك تبعاً لكونها واقعة فيه. وهذا شبيهٌ بما في فِقْهنا من ذكر بعض الأنجاس في فصل المياه مع كون باب الأنجاس مستقلاً عندهم أيضاً، فلهذه الأشياء تعلق بالماءِ لكونها واقعةً فيه، وكونِ الماء محلاً لوقوعها. ولهذا قد ينجرُّ ذِكرها إلى المياه، وقد ينجرُّ المياه إليها. ويبقى الفرق بالأصالة والتبعية، فالأصل في باب الأنجاس ذِكرها فقط، وذكر الماء لكونِهِ قد يتفق أن تقعَ فيه وإن أمكن وقوعُها في غيره أيضاً كالطعام واللبن والدهن وغيرها. وكذلك الأصل في باب الماء، ذِكرُ مسائله خاصَّة لا ذِكرُ الأنجاس، وإنَّما تذكر استطراداً لكونها واقعةً فيه. والحاصل: أن المصنَّف رحمه الله تعالى ذكر في ترجمته مسألة الأشعار أولاً، سواء وقعت في الماء أو الطعام، لا مسألة المياه. واعلم أن في الحديث باباً لا يوجد في الفقه إلا قليلاً، وهو أنَّ الشارع إذ يحكم على شيء بالنجاسة لا يحبُّ المعاملةَ معه والملابسة به، ويأمرُ بالاجتناب والتحرُّز عنه، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} (التوبة: 28) وقال: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاْنصَابُ وَالاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ فَاجْتَنِبُوهُ} (المائدة: 90)، وقال: {فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الاْوْثَنِ} (الحج: 30) فإذا حكم على شيء بكونه نجساً أمر بالتحرُّز عنه ونهى عن قُرْبانه، فعُلِم أنَّ الاجتناب والتحرز من لوازم النجس والرِّجْس. ورأيت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غسل اليدين بعد المصافحة بالمشرك، فكأنَّه فهم معنى النجس، وأنَّه لا ينبغي أن يقربَ منه، ولهذا غسل يديه مع كون يدي المشرك يابساً، ومقتضاه أَلا يطلق النَّجِس على الثياب والمياه. ثم اطلعت على كلام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير وفيه وفيه: إنَّ إطلاق النَّجَس على المؤمن لا يجوز، لا حقيقة ولا مجازاً وحينئذ ظهر شرح لطيف لقوله صلى الله عليه وسلّم «إنَّ المؤمنَ لا يَنْجَس» وشرح آخر لقوله: «إن الماء طَهُورٌ لا ينجِّسه شيء» فإن مياه الآبار لا يتنجس بحيث لا تبقى معها معاملة، ويكون التجنب عنها ضرورياً في نظر الشارع بل يُستعمل بعد نزح البئر، فهذا عُرف قرآني في النجس فلاحَظَه بخلاف الفقهاء، فإنهم يحكمون على شيء بالنجاسة ثم يكتبونَ مسائلَ تُبنى على بقاء المعاملة معها كما قالوا: إنَّ الكلب إذا مر في المسجد يابساً لا يتنجَّسُ به المجسد. وإنَّ المُصلي إن حَمَلَ جُرو كلب في كمِّه ولم يكن عليه نجاسةٌ تصحُّ صلاته. فباب الأنجاس لا يظهرُ أثرُها في الفقه إلا عند وقوعها في الماء أو المائع. أما قطعُ المعاملة عنها والملابسة بها، فهذا بابٌ مفقود في الفقه وإن ظهر في بعض الجُزئيات كما في «الكبيرى»: أنَّه يُكره لُبْس الثوب النجس خارجَ الصلاة أيضاً، فهذا يُشير إلى قطع المعاملة عنه ما دام نجساً. ونحوه نَسَبَ إلينا الشوكاني أييضاً، ولذا أقول: إنَّ أمر التوضؤ بخروج المَذْي وأمثاله محمولٌ على الفور لا عند القيام إلى الصلاة، فإِن المطلوبَ عند الشرع كونُ المؤمن على طهارةٍ وعدم تلطُّخه بالنجاسات. ولم يذكره من علمائنا إلا ما يستفاد من الجزئية التي ذكرتها عن «الكبيرى». قوله: (وكان عطاء)... إلخ، واختار البخاري في الأشعار مذهبَ أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما قال ابن بَطَّال، وأيدَه بأثر عطاء، لأنَّه لما وسَّع فيه باتخاذِ الخيوطِ والحبال لَزِمَ أن يقولَ بطهارته جزماً، فلو سقطت في الماء لا تُفْسِدُه، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لم يجوز الانتفاع بأجزاء الإنسان كرامةً له وتحرزاً عن الامتهان. وفي رواية عند الشافعي أنها نجسة، فأشكل عليهم أشعارَه صلى الله عليه وسلّم لأنَّه ذهب جماعة إلى طهارة فَضَلاته صلى الله عليه وسلّم ونُسِبَ إلى إمامنا أيضاً، إلا أنَّي لم أجده فاستثنوها. وأراد الحافظ رحمه الله تعالى إخمالَ هذه الرواية، لأنَّها أصعب عليه جداً، وصَدَعَ بها الشيخ العيني رحمه الله تعالى. قوله: (سؤر الكلب)... إلخ هذا هو الجزء الثاني من ترجمته. وفيه مسألةُ الآسار وتتعلقُ بها مسألة المرور فذكرها استطراداً. وسُؤرُ الكلب طاهرٌ عند مالك رحمه الله تعالى. وفي «المدونة»: أنه سُئل عن وجه الحديث المرفوع، فقال: لا أدري. ولعلَّه عدَّهُ من سواكن البيوت كالهرة، فصار من الطَّوَّافين فسقطت نجاستهُ عنده. ثم جاء فضلاء المالكية وقالوا: إنَّ الغَسْل منه لأجل صفاء الباطن، فإنَّه أطلقَ عليه لفظ الشيطان في الحديث، فهو من باب التزكية والتحلية دون النجاسة. قلت: فارتفع باب الآسار عند مالك رحمه الله تعالى، حتى أن سؤر الخنزير أيضاً غير مؤثرٍ في الماء عنده، فإنَّ الكلاب والسِّبَاع كلها يَرِدُون علينا ونردُ عليهم، فلا أثر لآسارهم في التَّنجِيسِ عنده. واختار الشافعي رحمه الله تعالى نجاسةَ سؤرِ الكلب والخنزير خاصة، ولم ير بسؤرِ السِّباع بأساً. ثم شَرَطَ التَّسبيعَ في سؤر الكلب، وهو مذهب أحمد رحمه الله تعالى فيه وفي سائر النجاسات، حتى رأيت في كلام بعضهم التسبيع في الاستنجاء أيضاً. والواجبُ فيه عندنا هو التثليث كما في البول والغائط، فإِنَّ سؤرَ الكلبِ ليس بأغلظ منهما. نعم، التسبيع مستحب كما في «الزَّيْلعي شرح الكنز». وصرَّح (الوبرى) باستحباب التسبيع عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى كما في «التحرير». وإنما اعتنيتُ بهذا النقلِ لأنه ليست في الكتب رواية عن أبي حنيفة، فيمكن أن يكونَ استحبابه من باب الخروج عن الخلاف، بخلاف ما في «التحرير» فإنَّه صريحٌ في كونه روايةً عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فصار التسبيع مستحباً على المذهب لا على طريق الخروج عن الخلاف، فإِنَّه باب آخر يجري فيما لا يكون فيه رواية عن الإِمام أيضاً. ثم إن راوي الحديث أبو هريرة أفتى بالثلاث أيضاً كما عند الطحاوي، وصححه ابن دقيق العيد. وما أخرج عنه الحافظ رحمه الله تعالى من فتوى التسبيع فإنه لا يضرُّنا، بل يؤكد الاستحباب، ثم فتوى الثلاث رفعه الكرابيسي كما في «الكامل» وهو حسين بن علي الكَرَابيسي من معاصري أحمد رحمه الله تعالى، من كبار العلماء- وإنما حَمَلَ ذكره لما جرى بينه وبين أحمد رحمه تعالى من الخلاف. ومنه تعلَّم البخاريُّ وداود الظاهري مسألة: لفظي بالقرآن مخلوق، ولم أطلع عليه بِجَرْحٍ فيه، فإِن كانت هذه المسألةُ هي سببُ الجرح فيه، فالبخاري أيضاً يصيرُ مجروحاً. ومع هذا أتردد في رفعه، ولعله وَهَمٌ منه. ثم فتوى التثليثُ وإن لم تكن مرفوعةً، لكن أخرجَ الطحاوي في باب سؤر الهرة إسناداً أن كلَّ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم وإنَّما كان يفعلُ ذلك لأن أبا هريرة لم يكن يحدثهم إلا عن النبي صلى الله عليه وسلّم فدلَّ على أن فتوَاه وإن كانت موقوفةً لكنها في حكم المرفوعِ. قلت: الكُلِّية محل ترددٍ عندي، نعم، كل ما رواه ابن سيرينَ عنه فهو مرفوع قطعاً، ثم لا عليك أن تحمل التسبيع على زمان كان فيه التشديد في أمرِ الكلاب، ثم خُفِّف فيه، فلعل أمر التسبيع كان عند أمره بقتل الكلاب، وإذا خفف في الكلاب وأباح لهم الاصطيادَ بها خفف في أمر التطهير أيضاً. ونظيره النهي عن استعمال الأواني المخصوصة بالخمر. ثم قال: «إن الأواني لا تحرم شيئاً ولا تحلله» فاستعملوا كلها غير أنه لا تشربوا مسكراً. وألزم الطحاوي أنكم لو عملتم بالتسبيع لأجل حديث أبي هريرة فعليكم أن تقولوا بالثامنة لحديث عبد الله بن مُغَفَّل ففيه: «وعفِّرُوه الثامنة بالتراب». قلت: وهو رواية عن أحمد رحمه الله تعالى أيضاً إلا أنَّ النَّووي حَمَله على أن المراد منه اغسلوه سبعاً واحدةً منهن بالتراب مع الماء، فكان الترابُ قائماً مَقَام غَسْله، فسميت ثامنة لهذا. وقد تصدَّى بعضهم إلى إثبات الاضطراب فيه. ففي رواية: «أولاهُنَّ بالتراب» وفي رواية: «أخراهن»، وفي أخرى: «إحداهن». قلت: بل ينبغي أن تجوزَ الصور كلها ولا اضطرابَ ولا حاحة إلى إقامة الترجيح كما قال بعضهم: إن الراجِحَ أولاهن. ثم الوجه في الأمر بالثامنة عندي أنَّ الترابَ لمَّا كان له دخلٌ في التطهير عدَّه الراوي غسلاً مستقلاً، فهو داخلٌ في السبع، ودليله أنَّه أمَرَه في عين تلك الرواية بالتسبيع، ثم قال: وعَفِّرُوه الثامنة. ولو أرادَ الغسل ثمان مرات لقال: فاغسلوه ثمان مرات، وعفروه الثامنة... إلخ. ولكنه أَمَر أولاً بالتسبيع، فذكر العددَ المطلوب ثم فكَّكَ الراوي منها واحدةً وعدَّها ثامنة في التعبير فقط. قال الحافظ ابن تيمية: إنَّ الكلب يكثر من فِيهِ اللعاب فيغلبُ على الماء ولا يتميز منه لكونه مائعاً أيضاً. وأنت تعلم أنه تغيَّرَ المناطُ، لأنه كان في أصل التغير وعدمه. ثم لا أدري ماذا أراد به؟ فإن أراد أنَّ الماءَ كان في الأصل طاهراً إلا أنه تنجَّس لأجل عدم تخليص اللعاب منه وهو نجس، فهذا مجرد اعتبار، لأنهم لا يعنونَ بحكم التَّنجيسِ على شيء إلا اختلاطُ النجَاسة به، ولا معنى لكون الشيء نجساً غيره وهل يتنجسُ الطاهر إلا باختلاط النجَاسة، فأي اعتبار هذا. وقد يتعللُ بأن لعابَه لزجٌ فلا يستحيل بالسرعة. قلت: وخرج منه مناطٌ آخر غير ما ذكره أولاً، وهو الاستحالة وعدمها، فالحافظ رحمه الله تعالى مع جلالة قدرِه اضطرب كلامهُ في المناط، ولا أظن بالشريعة أن تنوطَ أحكام النجاسة والطهارة فيها على الاستحالة وغيرها، مما لا يُدرى إلا بعد الممارسة الطويلة، ولشرحها موضع آخر. قوله: (وممرها)... إلخ وفي الكلب روايتان عن أبي حنيفة: في رواية أنه نجسُ العينِ، هو ما يكونُ نجساً بجميع أجزائه ولا يُستثنى منه شيء. وفي المشهورة أنه نجسُ اللحم، فإن صلَّى حاملاً إياه في كمه، صحت صلاتُه إذا لم ير عليه أثر نجاسة. قيل: إنما كانت تُقْبِلُ وتدبر لأنه لم يكن للمسجد إذ ذاك باب. قلت: ويمكن ذلك مع وجود الأبواب أيضاً كما هو مشاهد في زماننا، وعند أبي داود: تبول أيضاً، وحينئذٍ أشكل. قوله: (قال الزهري)... إلخ قال الحافظ رحمه الله تعالى: إن البخاري اختار مذهبَ مالك رحمه الله تعالى. وقال العيني رحمه الله تعالى: إنه اختار مذهبَ أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وهو الأجه عندي. فإِنه لم يُفصح في ترجمته بما يدل على طهارة سؤر الكلاب، ولا أخرج حديثاً يكون دليلاً على ذلك، بل أخرج حديث الغَسْل سبعاً الذي يدل على كونه من أغلظ النجاسات. وأما أثر الزهري فلا دلالة فيه على طهارته عنده، بل رُوي عنه في «مصنَّف عبد الرزاق» الأمر بإراقة سؤرها. أما ما أخرجه البخاري فهو نظيرُ مسألتنا: أَنَّ المُصلي إذا لم يجد إلا ثوباً نجساً هل يُصَلي عُرياناً أو في ذلك الثوب. فكما أنها لا تدل على عدم نجاسة هذا الثوب عندنا، كذلك قول الزهري فيمن لم يكن عنده غيرُ هذا السؤر، لا يكون دليلاً على طهارته وهو ظاهر. وأمَّا أثر سفيان فأيضاً كذلك، ونظيرها ما عن محمد رحمه الله تعالى في النَّبيذ أنه يتوضأ منه ويتيمم، بل تردده يشعر بخلافه. والحاصل: أنه ليس في ترجمته شيء صريح يدل على طهارة سؤرِها عنده، فلا ينبغي لنا أن نعزو إليه هذه المسألة.
وإنما تردد نظر الشارحين في مختاره لأنه أخرج المادَّة للطرفين تحت باب واحدٍ، فالأول: يدل على النجاسة. والثاني: يمكن أن يستدلَ منه على طهارته وإن كان ضعيفاً. قلت: ولا حجة في قصة الإسرائيلي على الطهارة. أمَّا أولاً، فلأنه لم يذكر أنه سَقَاه من خُفِّه أو حَفَرَ حُفرة ثم سقاه منه، وكذلك ليس فيه أنه غَسَلَ الخفَّ أولاً. وسكوتُه هذا ليس سكوتاً في معرض البيان، لأنه بصدد ذكر القِصة فقط لا ببيان المسألة. والرواةُ إذا سردوا قصةً لا يقصدون إلا ذكرَها على ما كانت في الخارج ولا يتعرضون إلى تخاريج المسائل ولا يراعونها في عباراتهم ثم يجيء علماءُ المذاهب ويأخذون المسائل من تعبيراتهم. وهذا طريق ضعيفٌ جداً فاحفظه فإِنه يُنجيك عن كثير من المضائق وستمر عليك نظائره في هذا الكتاب. قوله: (وقال أحمد بن شَبِيبٍ)... إلخ وفيه لفظ مشكل وهو «تبول» كما مرَّ: ولعل البخاري تَرَكه عمداً. وقد ثبت عندي أنه من عادة البخاري حذفُ الجملة المشكلة أو اللفظ المشكل ولا قلق فيه، فإِنَّه يعلم من موضعه. الحاصل: أن الشريعةَ لا تحكم بالنجاسة إلا بالمشاهدة الجزئية أو الإِخبار، فإِذا لم يكن هناك إِخبار ولا مشاهدة جُزئية، فاإنه لا تحكم بالنجاسة بمجردِ تطرقِ الأوهامِ وتوسوس الصدور. واعلم أن الشريعةَ لم تهدر الاحتمالات بالكلية وكذا لم تعتبرها بالكلية. والذي تبين لي أن تُقسَمَ على الأحوال فيعتبرُ مرة ويهدرُ أخرى. وإن كانت عامةُ عبارات فقهائنا تذهبُ إلى التعميم فإِنهم قالوا: إن ما يُحمل إلينا من دار الحرب فإِنه طاهر مطلقاً. وعندي أن مطبوخات الهندوسيين كلها مكروهةٌ لغلبة الظن بنجاستها، كما قالوا في سؤر الدجاجة المُخَلاة. قوله: (فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك) على الشافعية رحمهم الله تعالى. وهذا لا يردُ على الحنفية، فإِنهم قائلون بطهارة الأرض باليُبْس. وأبعد الخَطَّابي في تأويله بأنها كانت تبولُ خارجَ المسجد ثم تمر في المسجد. قلت: ما أظرفَ وأعقلَ هذه الكلاب فهلا قال: إنها كانت تستنجي أيضاً. ثم تجيء في المسجد واعلم أن ترك البولِ في أرض المسجد حتى اليُبس مستنكرٌ عندنا أيضاً فلم أرد به شرحَ الحديث من أن طهارةَ أرضِ المسجد عندهم كانت على هذا الطريق، بل أردت التعريضَ ليفهمَ الخصومُ أن الحنفية رحمهم الله تعالى أيضاً لهم مُسْكَةٌ في الباب. والوجه عندي أن غرضَ الراوي منه بيانُ عدم علمهم الخصوصي بمواضع أبوالها، مع حصول العلم الكلي وجنسه عندهم، فإِنها إذا كانت تُقبلُ وتدبر فأمكن أن تبول أيضاً فيقول: إنه لم يحدثْ من هذا الجنس في تطهير المسجد أمر جديد، بل عُدَّت طاهرة كما كانت قبل ذلك. والحكمُ بالنجاسة لا يمكن عندنا إلا بمشاهدة جُزْئية أو إخبار صحيح. وأما الظُّنْون فلا تغني عن الحق شيئاً. وبمثله نقول في حديث القُلتين وبئر بُضَاعة أيضاً، فإنه ليس هناك إلا عِلمٌ كليٌّ في مرتبة الجنس دون العلم الجزئي فاعلمه. ثم استدلَّ الشافعية على أنَّ الأرض لا تطهر إلا بالغسل بحديث بولِ الأعرابي في المسجد وإهْرَاق الدلو عليه كما أخرجه أبو داود. قلت: وهذا أيضاً سبيل آخر لتطهيرها عندنا وفيه نفع أيضاً، وهو إزالةُ الرائحة الكريهة، والتطهير على الفور. مع ورودِ التصريح بحفرِ هذا الموضع أيضاً، كما هو عند أبي داود، فكأنه اكتفى بإسالة الدلو في الحالة الراهنة ليطهر سطحها وأمرَ بعده بحفرها تطهيراً لباطنها. وكيف ما كان مسألة طهارة الأرض باليُبس مستقيمة على كل حال. 175- قوله: (إذا أرسلت)... إلخ واتفقوا على أنَّه إن قَتَلَ خنقاً لا يكون حلالاً، بل يكون ميتة، فلا بد من الجرح. وشَرَطَ بعضُهم الإِدماء أيضاً. قوله: (فإِنما أَمْسَكَهُ)... إلخ وفيه إشارة إلى أن الكلب بعد فَنَائه في رضاءِ مولاه يصيرُ آلةً له، ولا يبقى له حكمة بل يصير كالمُدْيَة. قلت: فما ظنُّك بالعبد الذي انتصب لمعاداةِ مولاه في اتباعِ هَوَاه، فمثله كَمَثَل الكلب أو أسوأ منه، فالكلبُ بعد طاعة مالكه صار في حُكْم المالك، والمالكُ بمعصية مولاه صار أسوأ من الكلب. ووجه الاستدلال منه على طهارته: أنه لم يأمره بغسل لعابه ولو كان نجساً لأمر به، فدلَّ على أنه طاهر. قلت: التمسكُ بالمبهمات بعد ورودِ الأحاديث المصرحة في الباب بعيدٌ جداً على أنَّه استدلال بالمسكوت، وهو في غاية الضَّعف، فإِنَّه كما لم يأمر بغسل لعابه لم يأمر بغسل الدم الذي خَرَجَ من جرحه، ولا أمر بإِخراج النجاسات التي في بطنه، فمن ذهب إلى طهارتها؟ وإنما لم يتعرَّض إلى الغسل لأنه معروفٌ في الصيد فاستغنى عن ذكره. ومُحَصِّل الكلام: أنه لا يُظن بمثلِ المصنِّف رحمه الله تعالى أن يكونَ ذهب إلى طهارته مع وُرودِ القطعياتِ الدالة على النجاسة في الباب، وغايتُه أن يكونَ فوض الأمر إلى النَّاظر، ولذا أخرج الأحاديث للطَّرفين، وهذ أيضاً من دأبِهِ فإِنَّه إذ يرى قوةً في الجانبين يذكر الحديثَ للطرفين ولا يجزم بأحد الجانبين والله تعالى أعلم.
شَرَعَ في النواقض ووافق فيها أبا حنيفة رحمه الله تعالى في مسِّ الذكر والمرأة ولم يَرَ بهما وضوءاً. ووافق الشافعي رحمه الله تعالى في الخارج من غير السبيلين فلم يره ناقضاً. ثم أَخَرَج آثاراً عديدةً ولا علينا أن لا نلتفتَ إلى جوابها، لأن جوابَ الآثارِ أن يُؤتى بآثار أخرى تعارضها ولكنَّا نُجيبُ بخصوصها إن شاء الله تعالى. فلنتكلم أوّلاً على آية الوضوء يسيراً ثم لنعرَّج إلى جواب الآثار. فاعلم أنه يشكلُ على تكرارِ الآية الواحدة كآية الوضوء في المائدة والنساء، فإِنَّه لا فرقَ بينهما إلا بلفظ منه في المائدة. ولا أجد التكرار مثله في باب الأحكام. نعم، قد يوجدُ في القصص لمقاصد ومعاني ذكرها المفسرون، مع أنه راعى فيها التفنن أيضاً. والذي تحصل لي في دَفْعِه: أن آية المائدة إنما نزلت لتعليم الوضوء عند القيام إلى الصلاة، كما مرَّ أنَّ المطلوبَ في شريعتنا هو الوضوءُ لكل صلاة وإن كان فرضاً بعد الحدث، وللتيمم عند فَقْدِ الماء. وآيةُ النساء نزلت لتعليم التيمم من الجنابة عند فَقْدِ الماء. ثم لمَّا كان التيمم من الحدث الأصغر والأكبر سواءٌ، جاء الاشتراكُ فب بعض الأشياء، وإلا فالآية الأولى سِيْقت لبيان حكم الحدثِ الأصغر، والثانية لبيان الحدث الأكبر، وانجرَّ في ذيلهما ذكر بعض أشياء تبعاً، وحينئذ لم يبق في التكرار قلق. وسيأتي بعض الكلام في باب التيمم. ثم اعلم أنَّ الآية عند الشافعي رحمه الله تعالى أقامت أصلين في النواقض: الأول: الخارج من السبيلين، وهو المُشار إليه بقوله: {أو جاء أحدٌ من الغَائِط} (المائدة: 6) فنقَّح مناطه وقال: إنه الخروج من السبيلين. والثاني: مسُّ المرأة وأَلحقَ به مسَّ الذكر أيضاً لكونهما من باب الشهوة. وعند الحنفية المراد من المُلامسة هو الجماع، كما ذَهَب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلي رضي الله تعالى عنه وغيرهما، واختَارَه البخاري وصرَّح به في التفسير، ولذا لم يُوجب من مسِّ المرأة والذكر وضوءاً. فالأصلُ عندنا واحدٌ، فإِنَّا فتشنا المناط في قوله: {أو جَاءَ منْكم أحدٌ من الغَائِطِ} فوجدنا المعنى المؤثرَ فيه خروجُ النَّجَاسة، ولم نجدْ للسبيلين أو غيرهما تأثيراً. وإذا علمنا أنَّه المؤثرُ في زوال الطهارة أدرنا الحكمَ عليه. وقلنا: إن الخارجَ النجسَ ناقضٌ مطلقاً. وبالجملة حمل الشافعي رحمه الله تعالى الملامسةَ على مسِّ المرأة، فَكَان المسُّ عنده ناقضاً بالنص وأَلحقَ مسَّ الذكر من الحدث. ونحن جعلنا الخارجَ من السبيلين ناقضاً بالنص وألحقنا به الخارجَ من غير السبيلين بالحديث. غير أنَّ الثاني أخف عندي بالنسبة إلى النوع الأول وإن لم يصرح به فقهاؤنا. وذلك لما ثبت عندي اختلاف المراتب تحت شيء واحد وسنقرره عن قريب. ومذهب الحنفية قوي. إنْ شاء الله تعالى- دِرَاية، ورواية. ويشهد له ما أخرج الترمذيُّ من حديث نقض الوضوء من القيء وسكت عليه، وصححه ابن مَنْده الأصْبَهاني، وأوَّله الشافعي رحمه الله تعالى وقال: إن المرادَ من الوضوء غَسْل الفم، وهو كما ترى. ثم قال الترمذي: وقد رأى غير واحدٍ من أهلِ العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم وغيرهم من التابعين الوضوءَ من القيء والرُّعَاف، وهو قول سفيان الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق. وقال بعض أهل العلم: ليس في القيء والرُّعاف وضوء، وهو قول مالك والشافعي رحمهما الله تعالى انتهى. وقال الخَطَّابي في «معالم السنن»: قال أكثر الفقهاء: سيلان الدم من غير السبيلين ينقض الوضوء. وهذا أحوط المذهبين وبه أقول ا ه. فعُلِم أن مذهبَ الحنفية هو ما اختاره أكثر أصحابه صلى الله عليه وسلّم ولا حاجة لنا بعد ذلك إلى تَجَشُّم استدلال. ولكِنَّا نقول: إنَّ لنا ما أخرجه الحافظ الزَّيْلَعي من «كامل بن عَدي»: «الوضوء من كل دم سائل». إلا أن في النسخة سهواً من الكاتب فكتب: محمد بن سليمان وهو غير معروف، وبعد التصحيح هو: عمر بن سليمان وقد حررته في محله. وفيه أحمد بن الفرج وقد أخرج عنه أبو عَوَانة في «صحيحه» فصار الحديث قوياً. وكذلك حديث آخر في البناء رواه ابن ماجه والدارقطني: «من أصابه قيء أو رُعَاف أو مَذْي فلينصرف وليتوضأ، ثم لْيبْنِ على صلاته»... إلخ والأصحُّ عندي أنه مرسل وإن تعقب عليه المارديني، ومالَ إلى رفْعِهِ، وفي التخريج للزيلعي أنَّه صحيح، ولعلَّه سهو من الكاتب، لأنَّ نسخته مملوءة من الأغلاط، فكان في الأصل غير صحيح فحرَّفه، لأن الأصح هو الإِرسال. والمرسلُ حجةٌ عند الأكثر سيما إذا التحق به فتاوى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كما في الزُّرْقَانِي وظَهَر به العمل. ثم الأظهر عندي: أَنْ يُرادَ من الملامسة المباشرةُ الفاحشة، فيدخلُ فيها الجماع، بل لفظ الملامسةِ أصدقُ على المباشرة مما قالوه. وحينئذٍ صارت الملامسةُ أيضاً أصلاً مستقلاً، كالخروج من السبيلين، فإِن الغُسْل بالجماع لا ينوط بالإنزال، فلا يقال: إن الجماع ليس أصلاً مستقلاً، بل هو داخلٌ تحت الخارج من السبيلين. وعلى هذا التقرير لا يردُ ما أورده الشيخ ابن الهُمَام على مذهب الشيخين: أنهما قالا: إنَّ المباشرةَ الفاحشة ناقضة مطلقاً، سواء خرج منه شيءٌ أو لا، وعللوه أنَّ المباشرة الفاحشة لمَّا لم تخلُ عن خُروج شيء في غالب الأحوال أُقيم غلبة الظنِّ فيها مُقَام خروجه، فقال الشيخ رحمه الله تعالى: إنَّ هذا الاعتبار إنَّما يناسب فيما لا يمكنُ إليه النَّظر بالحس، وههنا أمكن تحقيقهُ بالمشاهدة، فينبغي أن يُدارَ الحكمُ على حقيقة الخروج كما ذهب إليه محمد رحمه الله تعالى. قلت: والراجح عندي مذهب الشيخين، لأن نقضَ الوضوء من المباشرة الفاحشة ليس لِمَا فَهموه، فإنه يرجعُ حينئذ إلى الأصل الأول، بل هي داخلة عندي تحت الأصل الثاني، فهي من جُزْئيات المُلامَسَة. ثم اعلم أني أردتُ من المُلامَسة: الجماعَ، والمباشرةَ، الفاحشة كليهما، على طريقِ إِطلاقِ الشيء وإرادة بعض ما صدقاته وبعضُ مراتبه. فالجماعُ من أعلى مراتبه، والمباشرةُ من أدناه وأخذُ جميع المراتب غير لازم، ليقال: إِنَّه يلزم عليه كونُ مس المرأة أيضاً ناقضاً، لأنَّ الشافعية أيضاً لم يأخذوا بجميع مراتبها، وقيدوها بباطنِ الكفِّ وبكونها بدون حائل. وهذا بابٌ غَفَلَ عنه النَّاس، فإن الشريعةَ تَرِدُ بشيء وتبقى مراتبُها تحت مراحل الاجتهاد، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُواْ النّسَآء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}(البقرة: 222) فمن أخذَه بجميع مراتبه، ومن ذهب إلى وجوبِ الاعتزال وحُرْمة القربان مطلقاً، ولكنهم أقاموا فيه المراتب. فقال قائل: إنَّ المراد منه أدنى مرتَبةُ الاعتزال، وهو الاعتزال عن موضع الطَّمْث. وقال آخر: بل هو فوقه، فأراد من السُّرة إلى الركبة، وللغفلة على هذا اضطروا إلى التأويلات في كثير من المواضع، كقوله: «المؤمنُ لا يَنْجَس»، «وإن الماء الطهور لا يُنَجِّسُه شيء» ولو تركوا المراتبَ على الاجتهاد لَمَا احتاجُوا إليه، فسلبُ النجاسة عنه في مرتبة دون مرتبة، وهو معنى قول الطحاوي: أي كما زعمتم، أي ليست نجاستُه بهذه المثابة، وهذه المرتبة. وهكذا أقول في مسألة الإستدبار والإستقبال تكلموا عليه من الجانبين وأطالوا الكلامَ، وحقيقة الأمر أن الشريعةَ لم ترد فيها بمراتب النهي، فالمطلوب أن لا يتوجه الإِنسان إلى القبلة عند الغائط أما أنَّ أي مرتبة من التَّوقِّي مطلوبٌ فلم يتعرَّض إليه الشارع وتركه تحت الاجتهاد. وهكذا لا تردُ الشريعة إلا بالأمرِ والنهي، ولا تُعَرِّج إلى مراتبه أصلاً، بل يقول تحت الاجتهاد. فيجيء أحدٌ من الأئمة ويقول: إنه واجبٌ، ويقول آخر: إِنه مستحب، وكذا يقول هذا: إنه حرام، ويقول هذا: إنه ليس بحرام. ووجه الاختلاف ما نبَّهناك عليه، فإِذا لم تَرِد مراتبُ الشيء مصرحة من جهة الشرع لا بد لهم أن يختلفوا فيه. ومن ههنا عُلِم ضرُورَة الاجتهاد، فإِنه لولاه لما علمنا مَرَاتب الشيء، ولا أدركنا غَرَضَ الشارع، فإِن الشارع إذا تركه ولن يعرج إليه، فإِذن ليس من يُنبِّهنا إلا المجتهد. ولعلك ما دريتَ فِقهه بهذا القَدْر من البيان، وتحتاجُ إلى مزيد التِّبْيان. واعلم أنَّ هناك وظيفتان: الأولى: وظيفةُ الواعظِ المذكِّر، فإِنَّه يحرِّض على العمل ويرغِّب إليه، فيختار من التعبيرات ما يكون أدعى لها، ولا يلتفتُ إلى تحقيق المسألة واستيفاءِ شَرَائطها وموانعها، بل يرسل الكلام، فَيَعدُ ويُوْعِد، ويرغِّب ويرهِّب مطلقاً، ويأمر وينهى، ولا يلتفت إلى مزيد التفاصيل. والثانية: وظيفةُ المعلم والفقِيه، وهو يريدُ تلقينَ العلم وبيان المسألة. إما العمل بها فبمعزلٍ عن نظره، فيحقق البيانَ ويدقق الكلام ويستوفي الشروطَ ويختارُ من التعبيرات ما لا يكونُ مُوَهِماً بخلاف المقصود، بل يكون أدلَّ عليه وأقربَ إليه، فلا يرسل الكلام بل يذكرُه بشرائطه ويَعِدُ ويُوْعِد ويرغِّب ويرهِّب بشرائطه. فهاتان وظيفتان ومنصب الشارع منصبُ المُذَكِّر قال الله تعالى: {إنما أنت مُذَكِّر لست عليهم بِمُصيْطِرٍ} (الغاشية: 21، 22) وليس له منصبُ المعلم فقط، فهو مذكِّرٌ ومعلمٌ معاً، فوجب أن يعبِّر بما هو أدعى للعمل، وأبعد عمَّا يوجب الكسل. وهذا هو التعليم الفطري، فإِن أكثر تعليماته صلى الله عليه وسلّم مستفادٌ من عَمَلِهِ، فما أمر به الناسَ عمل به أولاً، ثم تعلم منه الناس. ولذا لم يحتاجوا إلى التعليم والتعلم. ولو كان طريقُه كما في زماننا لما شاع الدِّين إلى الأبد ولكنه عَلَّمَ الناس بعمله، ثم إذا قال لهم أمراً اختار فيه الطريقَ الفطري أيضاً: وهو الأمر بالمطلوب والنَّهي عن المكروه ولم يبحث عن مراتبه. قال الله تعالى: {وَمَآ ءاتَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ} (الحشر: 7) فهذا هو السبيل الأقوم. أما البحث عن المراتبِ فهو طريقٌ مستحدَثٌ، سلكَه العلماء لفسادِ الزمان. وأما الصحابة رضي الله عنهم فإنَّهم إذا أمروا بشيء أخذوه بجميع مراتبه، وإذا نُهُوا عنه تركوه بالكلية، فلم تكن لهم حاجة إلى البحث. ولو كان الشارعُ تعرَّض إلى المراتب لفاته منصبُ المذكِّر، ولانعدمَ العمل، فإِنه إذا جاء البحثُ والجدلُ بَطَل العمل. مثلاً لو قال تعالى: فاعتزلوا النساء عن موضع الطَّمْث ولا تقربوه فقطه واستمتعوا بسائر الأعضاء، لربما وقع الناس في الحرام، لأنَّ مَنْ يَرتعُ حول الحِمى يُوشكُ أن يقع فيه، وإنَّما أخذَ الاعتزال في التعبير ليكون أسهلَ له في العمل، ولا يقعوا في المعصية. وكذلك إذا أحب أمراً، أمر له مطلقاً، ليأتمر به النَّاس بجميع مراتبه، ويقع في حيز مرضاه الله تعالى مثلاً، قال: من ترك الصلاة فقد كَفَرَ، ولم يقل فَعَلَ فِعْلَ الكفر، أو مُستحِلاً، أو قارب الكفر، مع أنه كان أسهلَ في بادىء النظر، لأنه لو قال كذلك لفات غرضُه من التشديد ولانعدم العمل، ولذا كان السلف يكرهون تأويله. فالحاصل: أنه إذا يأمرنا بشيء فكأنه يريدُ العملَ به بأقصى ما يمكنُ، بحيث لا تبقى مرتبةٌ من مراتبه متروكةً، وكذلك في جانب النهي، ولذا كان يقول عند البيعة: «فيما استطعتم» فبذل الجُهد والاستطاعة لا يكون إلا إذا أجملَ الكلام وإذا فصَّل يحدثُ التهاون كما هو مشاهد في عمل العوامّ وعامة العلماء. أما الذين لهم وَجَاهةٌ عند الله، وقَبُولٌ في جَنَابِهِ، فهمُ الذين لا تُلْهِيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله. فإِن كنتَ هيناً ليناً تستطيعُ أَنْ تقبلَ ما ألقينا عليك من هذا التحقيق، فاعلم أنَّ القرآن أخذَ الملامسة في العُنوان، وهي تتناولُ مسَّ المرأة أيضاً. لكنَّه لما كان في أدنى مرتبة منه حكمنا باستحباب الوضوء منه، ولم نقل بالوجوب، بخلاف المُبَاشرة الفاحشة فإِنها أشد، فقلنا بإِيجاب الوضوء منها، وبخلاف الجماع فإِنَّه أشدُّ من الكل فقلنا بإِيجاب الغُسْل. والحاصل: أن إرادة المس باليد في مرتبةٍ تناول اللفظ، وإرادة المباشرة في مرتبة الغرض، يعني أن اللفظَ وإن كان يتناولُ المسَّ باليد أيضاً إلا أن الغَرَض منه هو الجماع والمباشرة، التي هي عبارةٌ من تماسِّ الفرجين. ولمَّا لم يكن المسُّ مراداً- وإن كان متناولات اللفظ- حكمنا بكونه ناقضاً في أدنى مرتبة، وأوجبنا الوضوءَ منه على خواصِّ الأمة، ومثله قلنا في لحوم الإِبل وما مسَّت النار. وعلى هذا فقد عملنا بالآية بجميع مراتبها. نعم، فرقنا في حكمها بالشدة والضَّعف، ويمكن أن يدخلَ في جُزْئيات المباشرة ما كان عليه العمل في ابتداء الإِسلام، أعني: الماء من الماء. ثم اعلم: أنَّ الشريعةَ قد تدل على هذه المراتب بصنيعها ولا تفصحُ عنها، ولكنَّها تُفهمها بعرض الكلام وأطرافه، ومن جهة القرائن، فتنهى عن شيء ثم قد تردُ بفعله تارةً، فيحدثُ التعارض في بادىء النظر. والوجه أنه يريد أن لا يترتكبه الناسُ ويجتنبوا عنه، ومع ذلك يريدُ بيان المسألة والجواز، فيرد بالفعل تارةً ليُعْلَم جوازه. وهذا كالاستدبارِ نهى عنه الشرعُ كما نهى عن الاستقبال. ثم رُوي عنه الاستدبار عن ابن عمر رضي الله عنه كما فهمه الشافعية. وهذا ليُعلَم أن كراهيةَ الاستدبار دون كراهية الاستقبال، مع أن المطلوبَ التجنب عنهما، إلا أن الاستدبارِ متحملٌ في بعض الأحوال. ونظائرهُ كثيرةٌ وسنعود إلى إيضاحه في باب ما يستر من العورة بأبسط من هذا. وبعد هذا التحقيق لم يبق تكرار في قوله: {جُنُباً} وقوله: {لَمَسْتُمُ} على أنَّ ذكر الجَنَابة والسُّكر في صدر الآية لكونهما منافيين للصلاة، ثم ذكر حُكمَ الاغتسال، ثم كرر: {لَمَسْتُمُ} لبيان التيمم، فاندفع إشكال الطبري. قال ابن الهُمَام: وإنَّما ناسب حملُ اللمس على معنى الجماع ليكونَ بياناً لحكم الحدثين عند عدم الماء، كما بيَّن حكمهما عند وجوده. فإِن قلت: فما تقول في القهقهة فإِنه ليس داخلاً في الأصلين مع أنكم قلتم بوجوب الوضوء منه. قلت: التحقيق عندي أن إيجابَ الوضوءِ منه ليس لكونه ناقضاً بل تعزيراً كما في «البحر»: أنَّ في الوضوء من القهقهة قولان: الأول أنه تعزيرٌ فقط. وفرّع عليه أنه لو قهقهه رجلٌ في الصَّلاة فوضوءُه باطل في حق الصَّلاة فقط، على أنَّه صح فيه مرسلُ أبي العالية عند الدارقطني وإن وَصَلَهُ الثقات، إلا أن الوجدان لا يحكمُ بوصله، فيمكنُ أن يكونَ وَهَماً. واختاره الأوزاعي أيضاً. ومن ههنا اندفع إيرادُ الزيادة على الكتاب بالخبر، فإِنّ القهقهة ليست داخلة في شيء من الأصلين اللذين ذكرهما النَّص في باب النواقض. فإِن قلت: إنه لا مناسبةَ بين المرضِ والسفر، والإِتيان من الغائط واللمس، فإِن الأوَّلين من الحالات التي يتعسرُ فيها القدرةُ على الماء، والأخيران من النواقض، فكيف ناسبَ عدهما في سياق واحد؟ قلت: وإنما حَسُن سردُها في سياق واحد لدخولها كلها في حُكْم التيمم، فإِن قوله: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآء} (المائدة: 6) يشمل الكلَّ، سواء كان مريضاً أو مسافراً أو آتياً من الغائط أو جنباً، فإِن هؤلاءكلهم إذا لم يَقْدِروا على الماء لفَقْدِه أو لعدم القدرة على استعماله، فإِنَّهم يتيممون على أنه جَمَعَ العذرين والناقضين، فكأن جمع هذا وهذا وهو لطيف. قوله: (قال عطاء) كذا المسألةُ عندنا. وقال جابر رضي الله عنه: «إذا ضَحِكَ في الصَّلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء». قلت: وعنه عند الدارقطني: «من ضَحِكَ منكم في صلاتِهِ فليتوضأ وليُعد الصَّلاة» وتكلَّمَ عليه الدارقطني، على أن الوضوءَ عندنا في القهقهة فقط. والحق أنَّ جابراً لا يوافقنا. قوله: (وقال الحسن) وكذلك المسألة عندنا، إلا أنَّه إذا نَزَع خُفية يغسل رجليه فقط، ولا يعيد الوضوء. قوله: (وقال أبو هريرة): قلت: وعنه في تفسير الحديث أنَّه... البخاري فيخالف البخاري أيضاً، لأنه أخصُّ من الخارج من السبيلين أيضاً، فإِذن هو نحو تعبير فقط. قوله: (ويذكر عن جابر رضي الله تعالى عنه)... إلخ وأخرجه أبو داود وإنما عبَّر عنه بالتمريض لأنَّ في إسناده عبد الله بن محمد بن عَقيل. وحسَّنَ بعضُهم حديثَه وهو الراجح عندي. قال الترمذي: وعبد الله بن محمد بن عَقيل هو صدوق، وقد تَكَلَّم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم والحُميدي يحتجون بحديث عبد الله بن محمد بن عَقيل. قال محمد (يعني البخاري) وهو مُقارِبُ الحديث. قلت: والاستدلال منه غير تام، لأنَّه لم يَعلم أنَّه هل بَلَغَ خبرُه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أم لا؟ ثم إن الدم نجس بالاتفاق، فكيف مضى في صلاته مع وجود الدم النجس. قال الخَطَّابي في باب الوضوء من الدم في قصة رجلين كان النبي صلى الله عليه وسلّم بعثهما للحراسة على فم الشِّعب. وقول الشافعي رحمه الله تعالى قويٌّ في القياس، ومذاهبهم أقوى في الاتباع. ولست أدري كيف يصح هذا الاستدلال من الخبر والدم إذا سالَ أصاب بدنَه وجلدَه، وربما أصاب ثيابه، ومع إصابته شيء من ذلك- وإن كان يسيراً- لا تصح الصَّلاة عند الشافعي رحمه الله تعالى، إلا أن يقال: إن الدمَ كان يخرجُ من الجِراحَة على سبيل الذوق، حتى لا يصيبُ شيئاً من ظاهر بدنه، ولئن كان كذلك فهو أمر عجب. والوجه عندي أنه كان إبقاءً رجاءً للرحمة، فإنَّ الشهيد يجيءُ يوم القيامة واللونُ لون الدم والريحُ ريحُ المسك، فهذا من باب المناقب كالموت في السجدة. وكما في البخاري في قِصة شهادة القرَّاء، حيث استشهد رجلٌ من أصحابه صلى الله عليه وسلّم فخرجَ منه الدمُ فأخذ من دمِهِ وجعل يمسَحَه على وجهه ويقول: فُزت ورب الكعبة. ولم يبحث هناكَ أحدٌ أنَّ مسحَ الدم على الوجه كيف هو. وكقوله في رجل مات في إحرامه: «لا تخمِّرُوا رأسَه.... فإِنَّه يُبعث يوم القيامة مُلبياً» فإنَّه من باب البِشارة. وحملَه الخصومُ على الحكم الفقهي وليس بجيد وسنقرِرُه في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: (وقال الحسن)... إلخ أي البصري ويمكنُ أن يُحمل على مسألة المعذورِ عندنا وهذه المسألةُ ذكرها الكبير أحسن من الكل. ثم إنهم ذكروا مسألة ابتداء العُذر، أي متى يصير معذوراً وهو بإحاطة الوقت، ومسألة بقائه وهو بظهوره مرة في وقت الصَّلاة، ولم يتعرضوا إلى أنَّه ماذاً يفعل في ابتداءِ عُذْرِه، فهل ينتظر إلى أَنْ يمضي الوقت فيتبين أنَّه كان معذوراً أولا، ثم يُصلي ويقضي ما فاته، أو يتوضأ ويصليِّ قبل التَّبيُّنِ ولم أرها إلا في «القنية» وفيها: أنَّه يتوضأ ويصلِّي مع عُذْرِهِ، فإِنْ أحاط عذرُه بالوقتِ صحت صلاته وإلا فيُعِيدُها. قوله: (قال طاوس)... إلخ ولعلَّهَ دمُ المعذورُ، أو دم غيرُ سائلٍ، كما قال الحسن على ما عند ابن أبي شيبة بإِسناد صحيح: «أنه كان لا يرى الوضوء من الدم، إلا إذا كان سائلاً». قوله: (وعَصَر ابن عمر).. إلخ وليس فيه أنَّه خَرَجَ إلى موضعٍ يلحقه حكم التطهير أم لا؟ مع أنَّه فرَّق بين الخارج والمُخرَج كما في «الهداية». قوله: (وبزق ابن أبي أَوْفَى دماً)... إلخ، وهكذا عندنا إذا لم يكن الدم غالباً على البُزَاق. قوله: (وقال ابن عمر رضي الله عنه) قلت: وليس فيه أنَّه في أحكام النجاسة أو الصلاة، لأنَّكَ قد عَلِمتَ أن الأحسنَ عند الشرع هو إزالة النجاسة على الفور دون التَّلطُّخ بِها. فالوضوء من المَذْي، والمضمضةُ من اللبن، وكذلك غَسل المَحَاجم كلها ليس من أحكام الصلاة عندي، بل المقصود منها الإتيان بها على الفور. وقد تحقق عند أن التلطُّخَ بالنجاسات يوجِبُ نقصاً في العبادات في نظر صاحب الشرع، فقال صلى الله عليه وسلّم «أفطر الحاجِمُ والمحجوم» لهذا النقيصة والوضوء من الرُّعَاف والقيء، وترك الصيام للحائضة كلها لهذا المعنى، والله تعالى أعلم. وسنقرره في الصيام. 178- قوله: (حدثنا قُتيبة)... إلخ وفيه الوضوء فهو من أحكام المَذْي عندي، فيستحب له أن يَغْسِلَ ذَكَرَه عقيبه. ولمَّا كان أكثر أحكام الفقه يتعلق بالحلال والحرام، خفي ذكرُ هذه الآداب، واقتَصرَت هذه الأبواب كلها على وقت الصلاة. ولعل الوجه فيه أن المنيَّ لمَّا كان من الشهوة القوية أوجب منه الغُسْل، وهذا من الشهوة الضعيفةِ فأوجبَ فيه الوضوءَ وغَسْل المذاكير فقط. وما ذكره الطحاوي: أنَّه كان للعلاج، لم يرد به العلاج الطبي، بل دَفُع تذرِيقهِ في الحالة الراهنة، كما في الجديث من الغسل والجلوس في المِرْكن للمستحاضة، فإِنه أيضاً مؤثرٌ في تقليل الدم. وهذا يَدُلك ثانياً على أن تقليلَ النجاسة وعدم التلطخ بها مطلوبٌ في حدّ ذاته. 179- قوله: (حدثنا سعد)... إلخ أقول: والإِجماع منعقدٌ على إيجاب الغُسل بمجاوزة الخِتَانين، فلعل مراد عثمان أنه يتوضأ في الحالة الرَّاهنة ليتخفَّفَ أثرُ الجنابة، ولا يريدُ به نفيَ الغُسْل رأساً فإنَّه ضروري. وإنما تعرَّض إلى أمر زائد. كيف وقد صحَّ عنه فتوى الغُسْل. ويمكن أن يُحمل على زمانٍ لم يكُن حَصَلَ عليه الإِجماعُ، حتى إذا جَمَعَ عمرُ رضي الله عنه الناس وأعلنَ أنه من يعملُ بعده بحديث: «الماء من الماء» يُعَزِّرْه، فلا يُمكِن أن يقولَ به. ولذا قال الترمذي بعد إخراج حديث الجمهور: وهو قول أكثرِ أهلِ العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعدّ منهم عثمان رضي الله عنه أيضاً، على أن أحمد رحمه الله تعالى كان يعلله، كما في «الفتح». 179- قوله: (كما يتوضأ للصَّلاة) وهذا يُشير إلى أنَّ للوضوء أقساماً في ذهن الراوي، ولذا قيَّده وقد ثبت نحو من الوضوء عند الطحاوي عن ابن عمر رضي الله عنهما: وهو وضوءُ مَنْ لم يحدث. وعند مسلم في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم للنَّوم. وهو أيضاً ليس بوضوءٍ تامٍ. وإذا ثبتت أقسامٌ في الوضوء فلا بُعْد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم التزم لنفسه نوعاً منه لردِّ السلام أيضاً، كما في قصة مهاجر بن قُنْفُذ: «إني كرهت أن أذكر الله إلا على طُهْر» والكلام فيه طويل. وسَيجيء مفصلاً إن شاء الله تعالى. 180- قوله: (أعجلت) تعجيل هو كئى تجهير. 180- قوله: (قحطت) من القحط صلى الله عليه وسلّم ني نه نكلا وهو مفصلٌ عند مسلم: وهو دليلٌ صريحٌ على أنَّ قوله: «الماء من الماء» كان في اليقظة لا في النوم، كما عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه في الاحتلام. وقد مرَّ منَّا تأويله في المقدمة.
يعني هل يجوز الاستمداد في الوضوء؟ فأجاز الحنفية الصبَّ ومثله دون الدَّلك، فهذا أيضاً من باب إقامة المراتب، فأجازوا بعضها ومنَعوا عن بعضها. ثمَّ إن النبي صلى الله عليه وسلّم توضأ بعدَه في المُزْدَلفة أيضاً، ولا بأس إذا كان بعد تبدُّل المجلس. 181- قوله: (المصلى أمامك) وقد مرَّ مفصلاً أنَّ وقتَ المغربِ والعشاء في هذا اليوم صارَ واحداً في نظر الحنفية. 182- قوله: (ومسح برأسه) وفي بعض طرقه: «ومسح بعِمامته»، فحديث المُغِيرة لا يقومُ دليلاً للحنابلة في الاكتفاء بالمسح على العمامة، ما لو يأتوا بدليل نصاً على مسح العِمَامة بدون المسح بشيء من الرأس. وأمَّا الحديثُ المُجمل فإِنَّه لا يكفي، فإِن الراويَ قد يكتفي بِذكْر العِمَامة، ثم إذا أراد التفضيلَ ذَكَرَ معه المسحَ على الرأس أيضاً، مع أن الواقعة واحدةٌ فلا يمكن إلا أَنْ يكون مَسَحَ على بعض الرأس وأدى سُنَّة التكميلِ على العمامة.
لم يفصح المصنِّف رحمه الله تعالى بأن المرادَ منه: الأصغر أو الأكبر؟ وعُلم من الخارج أنها جائزةٌ عنده بعد الحدث الأكبر. وقوله: «وغيره» أي في الأوقات العامة. وقوله: (لا بأس) وتُكره عندنا في الحمام كما في قاضيخان. وكذا لا يُقرأ عند الميت قبل غَسْله. قوله: (وبكتب الرسالة) ومسُّ المصحف للمحدثِ حرامٌ عندنا مطلقاً، سواء كان مسَّ حروفَه أو بياضه. نعم، يجوزُ مسُّ بياض التفاسير. وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى: أنه يجوز في المصحف أيضاً. أما قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) فقال مالك رحمه الله تعالى: إنه خبرٌ لا إنشاء. وذهب إلى التوسُّع كالبخاري، ومعناه: أنَّ المطهرون هم الملائكة فأخبر أن القرآنَ لا يمكن أن تقربَه الشياطين وتمسَّه، وأَن الملائكة هم الذين يمسُّونه، وليس بإنشاءٍ لِيَشتَرطَ الطهارة للمس. ومر عليه السهيلي وقال: إن {الْمُطَهَّرُونَ} وصفٌ للملائكة، فإنَّهم الذين يكونون دائماً على هذا الوصف، أمَّا بنو آدم يتنجسون مرَّة ويتطهرون أخرى، فهؤلاء متطهرون، أي طهارتهم كَسْبية لا مُطَهرون، لأنَّه يدل على دوام الطهارة، فلا يكون إلا الملائكة. 183- قوله: (ثم اضطجع) واعلم أنَّ الحنفيةَ رأوا الاضظجاع بعد سُنَّة الفجر جائزاً، ولم يَروَه سنةً مقصودةً في حقه صلى الله عليه وسلّم أمَّا لو أراد أحدٌ أن يقتديَ بعادات النبي صلى الله عليه وسلّم يؤجر أيضاً، ويصير مقصوداً في حقه. وقال إبراهيم النَّخَعي: إنه بدعة. ثم نَسَبَ إلينا أن الاضطجاع بدعةٌ عندنا، مع أنَّ الحنفية لم يقولوا به. 183- قوله: (خفيفتين) وفي رواية: أنَّه كان يقرأ بسورة الإِخلاص، وقل يا أيها الكافرون. وعند الطحاوي أن الإمام الأعظم كان يقرأ تارةً بجزء. قلت: ولعلَّه إذا فات حزبُه من الليل فيطول القراءةَ تلافياً له. وفي «الدر المختار»: أنَّه قرأ مرَّةً داخلَ الكعبة نصفَ القرآن في رَكْعة قائماً على إحدى رجليه، ونصف القرآن في ركعة أخرى هكذا وتحير منه الشامي. قلت: وهو ثابتٌ مرفوعاً أيضاً، كما ذَكَرَهُ أصحاب التفاسير في سورة طه. قال الحافظ ابن تيمية في بيان نُكتة تخفيف هاتين الركعتين: إِنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم كانَ يبدأ وظيفتَه من الليل بالركعتين الخفيفتين، فلما دخل في وظيفة النَّهار أحبَّ أن يبدأها بالركعتين الخفيفتين فلمَّا دخل في وظيفة النهار أحبَّ أن يبدأ بالركعتين كذلك، لتكون شاكلةُ الوظيفتين واحدة. ثم اعلم أنَّ هذا الحديث أخرجه الطحاوي أيضاً، وفي إسناده قيس بن سليمان مكان مَخْرمَة بن سليمان، وهو سهو من النَّاسخ قطعاً، فإِنَّه لا دخل لقيس في هذا الإسناد. فاعلمه.
قال الأطباء: إنَّ الإغماء يكون في الدماغ، والغَشْي في القلب، وهو من النَّواقض عندنا أيضاً، فاعتبر فيه المراتب أيضاً، حيث عَدَّ الثقيلَ منه ناقضاً دون الخفيف. 184- قوله: (فحمد الله وأثنى عليه) هذه الخُطبة للكسوف، وهي سُنَّة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: إنها ليست من سُنن الصلاة، وإنما خَطَبها لداعية المقام. قلتُ: وهذا من مراحل الاجتهاد. 184- قوله: (إلاّ قد رأيته) والرؤية غير العلم، فإنَّك ترى الجو من الفَلَك إلى السمك، ولا تعلم كُنُه ما في بطنك، فلا يُستدلَ على العِلمِ المحيط.
قوله: (وقال ابن المسيب)... إلخ يعني أنها لا تمسح على الخِمار اختار فيه مذهبَ مالك، ولا شك أن الرأس اسم لمجموع العضو، فلا يكون المأمور بالمسح إلا هو، وهذا هو نظر المصنِّف رحمه الله تعالى. والذي فيه عندي، أنَّ نظر الأئمة دائرٌ في أنَّ الفعلَ إذا أُمر بإِيقاعه على محلٍ، فهل يُشترطُ للامتثال به إيقاعُه على جميع المحل، أو يكفي على بعضه أيضاً؟ ولا إجمال في الآية كما قرروه، لأنَّه يكون إما بالاشتراك أو بالغرابة، وليس ههنا واحد منهما. نعم، إن ثَبَتَ أن الإِجمالَ قد يكون باعتبار مراد المتكلِّم أيضاً، فهذا النوع ممكن ههنا، إلا أن الإِجمال عندهم ينحصر في النحوين فقط. فنحن معاشر الأحناف تفحَّصْنا حالَ النبي صلى الله عليه وسلّم في المسح فلم نجد فيه أقلَّ من الرُّبُع فقلنا به، وعلمنا أن الإِيقاعَ على الربع يحكي عن لكل، ويقومُ مَقَامه في نظر الشارع، ويؤدي مُؤدَّاه عنده. لحديث المُغيرة رضي الله عنه، فإنه بعد اختلاف ألفاظه لا يدلُ إلا على أنه مسحَ على بعض الرأس، أي الناصية، وهو ما كان شريطةً، أما على العِمَامة فلأَداءِ سُنة الاستيعاب. ولنا ما عند أبي داود: «أنه مسحَ مُقدَّم رأسه ولم ينقض العِمَامة» وفيه أبو مُعْقِل: إنه مجهول. قلت: وتبين لي اسمه وهو حَسَنٌ عندي، وهو عبد الله بن مَعْقِل كما في «الفتح» وفي «تهذيب التهذيب» عبد الله بن مَعقِل عن أنس في المسح على العمامة هو أبو مَعقِل يأتي في الكُنى، سمَّاه صاحب «الأطراف». وأيضاً عندي مرسلٌ عن عطاء بن أبي رَبَاح: «أنُّ النبي صلى الله عليه وسلّم كان في سفر وكان على رأسه عِمَامة، فوضَعَها على رقبته ثم مسح رَأْه» فلمثل هذه الأحاديث قلنا: إن الاستيعابَ ليس بفرضٍ. وثَبَتَ في «الفتح» و«العُمدة» عن ابن عمر رضي الله عنه: «أنَّ المسح على الربع كافٍ للخروج عن العُهدة»، فعُلِم أن الاستيعاب لم يكن شرطاً عند السلف أيضاً. ثم اعلم أنَّ الراوي توجه في قوله: «ولم يَنْقُض العِمامة» إلى أمرٍ مُهم، لأنَّ السُنَّة في المسح هو الإِقبال والإِدبار، فمسَّت الحاجةُ إلى تعليم المسحِ حالةَ التعمم، فإِنَّ الإِقبال والإِدبار متعذران في ذلك الحال، فالظاهر أنَّه أراد أن يعلِّمَ كيفية المسح حال التعمم. والله تعالى أعلم. وفي «مدارج النبوة» عن ابن الظهيرة: أنَّ الأقوى بما في الباب مذهبُ مالك رحمه الله تعالى. «قلت»: وفي «التفسير الكبير» عن البغوي: أنَّ الأقوى مذهبُ الإِمام الأعظم، ولعلَّهُ في «طبقات الشافعية» أيضاً. وعن أحمد رحمه الله تعالى: أنَّ المرأةَ إن مسحت على مُقَدَّم رأسها أجزأها. 185- قوله: (فَأَفْرَغ على يده) واعلم أنَّه قد مر منا الاختلافُ في غسل اليدين قبل الوضوء، هل هو من آداب المياه أو سُنن الوضوء؟ والذي يظهر أنَّه من باب اختلاف الأنظارِ فقط، لأنه إذا ثَبَتَ عسلهُما قبل الوضوءِ عند الطائفتين. فالذين قالوا: إنَّه من آداب المياه لم يذكُروا له إلا حِكمة التقديم، وهي صِيَانة الماء، فهذا نظرٌ لا غير. والذين قالوا: إنَّه من سُنن الوضوء، فكأنهم لم يلتفتوا إلى تلك الحكمة مع اتفاقِهم على أنَّه الوضوء. نعم، لو ثَبَتَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم تركُه في وضوئه لكان محلاً للخلاف. ثم إِنه وقع لفظُ الوضوء في حديث المستيقظ فقال: «فلا يَغمِس يدَهُ في وضوئه» فمن هنا دارَ النظرُ في كونه من أحكام الوضوء أو الماء، وحينئذ الأولى أن يسلمَ النظران ويقال: إن الغَسْل إنما هو لأجلِ صيانة الماء، لكنَّ موضِعَهُ قبل الوضوء كما في الحديث، فإِنَّ ماءَ الوضوء أولى بالصِّيانة، وحينئد يجتمع النظران ولا يبقى التناقض، ولا يذهب عليك أنَّ غَسلَ اليدين مرتين ههنا من فعله نفسه، وما يذكره من فعله صلى الله عليه وسلّم الذي رآه، ففيه كما في الرواية التالية: أنَّه كان إلى المرفقين فاعلمه. 186- قوله: (فأقبل بهما وأدبر) والإِقبال والإِدبار حركتان لا أنهما مَسْحتان، كما عن عبد الله بن زيد في الرواية الآتية عقيبها: «فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة» فحسبُه مرةً واحدةً مع ذكر الإِقبال والإِدبار. وكذا في حديث الربيع أخرجه الترمذي وغيره قالت: «مسح رأسه، ومسح ما أقبل منه وما أدبر، وصُدغيه وأذنيه مرةً واحدةً، ثم تقول هي: «مسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخَّرِ رأسه، ثم بمقدَّمِهِ» فتبين أنَّ مَن ذَكَر التَكرار في المسح عنى به الإِقبال والإِدبار. وقال أبو داود: أحاديثُ عثمان الصِّحاح كلها تدلُّ عل المسح مرة. على أنَّه روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنَّ المسح ثلاثاً بماء واحد جائزٌ، كما في «الهداية» وفي قاضيخان عن أبي حنيفة: أنه لو ثلَّث المسح لا تكون بِدعةٌ ولا سُنة، وهو الرجح عندي، وإن كان في بعض الكتب أنَّه بدعة. أما الإِقبال والإِدبار فقال النووي: قال أصحابنا: وهذا الردُّ إنما يُستحَبُّ لمنْ كان له شعر غير مضفور، أما من لا شعر له على رأسه، أو كان شعرُه مضفوراً، فلا يُستحب له الرد، إذ لا فائدة فيه. ولو ردَّ في هذه الحالة لم يُحسب الردُّ مسحةً ثانيةً، لأن الماءَ صار مستعملاً بالنسبة إلى ما سوى تلك المسحة. انتهى. أقول وهو باطلٌ قطعاً، بل الإِقبال والإِدبار لتحقيق الاستيعاب، ويستوي فيه المضفور وغيرُه. وأما حكاية الاستعمال فليست كما قال، لأنه لا يحكم به إلا عند الانفصال وحكمه المسح كما ذكره الشاه ولي الله رحمه الله تعالى: أنَّ دأبَ الشرع أنه إذا خفَّفَ في أمرٍ يتركُ له أُنموذجاً لئلا يُذْهَل عن الأصل بالكُلية، كغسل الأرجُل إذا سقط حالَ المَخفف أقيم مُقَامه المسح أنموذجاً للغسل وتذكاراً له، وكذلك في مسح الرأس، كان الأصل فيه أيضاً هو الغَسْل، إلا أنَّه اكتفى بالمسح لِمَا نبَّهناك أنفاً. قلت: وعندي رواية عن علي رضي الله عنه «من الترغيب والترهيب»: أنه لئلا تنتشر الأشعار في المحشَرِ من طول المُكث». وإسناده ضعيف. قوله: «في الإِسناد» وهو جد عمرو بن يحيى. ويعلم من «الموطأ» لمحمد رحمه الله تعالى: أن الضميرَ راجعٌ إلى السائلِ، لأن عبد الله بن زيد ليس جد عمرو، بل جد عمرو بن أبي حسن، كما في الرواية التالية: «شَهِدْتُ عمرو بن أبي حسن سَأل عبد الله بن زيد»... إلخ.
ذهب البخاريُّ إلى طهارةِ الماء المستعمل. قال الشيخ ابن الهُمَام وابن نُجَيم رحمهما الله تعالى: إنَّ العراقيين قاطبةً أنكروا روايةَ النجاسة عن الإِمام، وهم المُتَثَبِّتُون في نقل مذهب الإِمام عندي. وأثبَتَها ما وراء النهر من علمائنا، وهي ضعيفة جداً، لأنِّي لا أجدُ أحداً من السلف يُعَامِلُ الماءَ المستعمل معاملة النجاسات، إلا أنه لا شك أن المطلوب عند الشرع هو صيانةُ وضوئه عنه، كما عند الطحاوي عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لا يَغْتَسِلُ أحدكُم في الماء وهو جنب»، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة فقال: «يتناوله تناولاً». وكذا نَهَى الرجلَ عن فَضلِ طَهورِ المرأة. عندي يُبتنى على هذه الدقيقة كما سيجيء تقريره. والحاصل: أنَّ الماءَ المستعملَ طاهرٌ، لا دليلَ على نجاسته، إلا أنَّ التوقي منه. ثم إن البخاري رحمه الله تعالى استدل على طهارته بفضل طَهور رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولي في استدلاله نَظَرٌ ظاهرٌ، وإن كانت المسألةُ صحيحة في نفسها، لأن العلماء ذهبوا إلى طهارة فَضَلاته صلى الله عليه وسلّم فكيف بفضلِهِ، فلا تقومُ حجة على الطهارة مطلقاً. نعم، يَثْبت طهارة فضله خاصَّة، وبعد فالأمر سهلٌ، ونَسِبَ إلى مالك رحمه الله تعالى أنه مطهِّر أيضاً. 187- قوله: (الهاجرة) أي نصفُ النهار، سُمِّي بها لأنَّهم يهجرون الطريقَ في هذا الوقت ويجلسون في بيوتهم. 187- قوله: (فضل وضوئه) أي المتساقط من الأعضاء. قوله: (فصلَّى النبي صلى الله عليه وسلّم ... إلخ ولا دليل فيه على الجمع، لأنَّ الراوي بصدد تعديد ما كان من أفعالِه صلى الله عليه وسلّم فجاء الاتصال في الذكر لهذا، لا لأنه تعرَّضَ إلى حال صلاته في الخارج. وهذا كتعديده أشراط الساعة، وربما تكون بينها مدة طويلة، فيجيء أحدٌ من الجهلاء ويظُنها متصلاً واحداً بعد واحد لمجرد القِران في الذِّكر. قوله: (فمَسَح رأسي) انظر كيف ظهرَ الفرقُ بين قوله: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} (المائدة: 6) وقوله: وامسحوا رءوسكم، فإِنَّ المعتبرَ في الأول هو المسحُ المعهودُ في الشرع، وهو ما يكون بإمرار اليد المبتلة. وأما الثاني فهو على مجرد اللغة، ومعناه إمرار اليد لا غير، ولذا قال: «فمسح رأسي» ولم يَقُل برأسي، وأجد هذا المسح للتبريك في الكتب السَّابقة أيضاً. ومنه سُمِّي المسيح، كأنه مَسَحهُ ربُّه وصار مَسِيحاً بِمسحِهِ، ولذا كان محفوظاً عن نزعة الشيطان ومسحُ رأسِ الصبيان للتبريكِ رائج إلى الآن أيضاً. 189- قوله: (كادوا يقتتلون) وهو واقعة صُلح الحُدَيْبِيَة.
بَوَّب بلا ترجمة وقد ذكرنا وجهه. 190- قوله: (فشربت من وضوئه) والظاهر أنه الباقي في الإِناء دون المتساقِطِ من الأعضاء. 190- قوله: (زَرِّ الحَجَلة) وقد أتى كل منهم في تشبيه ما كان أقربُ إليه في ذهنه وكان علامة لختم النبوة. وناسب أن يكونَ على الظَّهر على خلاف ما يكون على جبهة الدَّجَّال من: ك، ف، ر، يقرأه كل راءٍ، وذلك لأنَّ الختمَ يكونُ في الآخر، فناسب الظهر. وطبعه بالنقش المذكور للإشاعة والإِعلان، فناسب الوجه. ولم يكن الخاتم في حقِّ الوسط بل كان مائلاً إلى جانب اليسار، وذلك لأنَّه محل وسوسة الشيطان كما كُشِفَ لبعضهم أنَّ للشيطان خُرطوماً، فإذا وسوس في قلب ابن آدم جلس خلفَه ووسوس من هننا، فجعل الله سبحانه محفوظاً من الخاتم، فناسب ذلك المحل للختم.
ويُستفاد بلفظ «من» أنَّه يُشير إلى الاستدلال على الجمع فقط، لا أنَّه اختاره بنفسه أيضاً. واعلم أنَّ الخلافَ في الفصل والوصل بين الحنفية والشافعية ليس في الجواز وعدمه، بل في الأوْلَوية، مع أنَّ في «البحر» تصريحاً بأنَّ أصل السنة تتأدى بالوصل أيضاً وكمالُها بالفصل. وهو في «إمداد الفتاح شرح نور الإِيضاح» أيضاً، فلا حاجة إلى الجواب عندي. وقد أجاب عنه الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى أنَّ المرادَ من قوله: «من كُفَّة واحدة» هو الاستعانة بيد واحدةٍ على خِلاف سائر الوضوء، فإِنه يُستعان فيه باليدين. فالراوي لا يريد الفصلَ والوصلَ، بل يريد بيانَ استعمال كفة لا كفتين. وقال آخر: إنَّه من باب تنازع الفعلين، والذي وَصُحَ لدي: هو أنَّ حديث عبد الله بن زيد واقعة واحدة، وفيها الوصل لما في النسائي: «من ماء واحد» وروى: «غَرفة واحدة» لكن لا لكونه سُنة بل لكون الماء قليلاً. أما كونه واقعة فلما أخرجه البخاري في باب الغسل والوضوء من المِخْضَب يكونُ الغُسْل مرتين أيضاً سُنة لهذا الحديث بعينه، مع أنه لم يقل به أحد. ثم اعلم ولا تغفل أن هذا من دأبهم أنه إذا تكونُ عندهم واقعةٌ عن النبي صلى الله عليه وسلّم يُضيفونها إليه كالعادة له، ويعبرون عنها كأنها وضوء النبي صلى الله عليه وسلّم دائماً، ولا يمكن لهم غيره، فإنهم لم يَرَوه إلا كذلك، فلا بد أن يجعلوه كالعادة له، فإن الصحابة لم يتيسر لكل منهم الصُّحبة إلى زمان طويل، بل صَحِبَ بعضُهم مرةً فقط، وبعضٌ آخر أزيدَ منه وهكذا.ثم عبَّر كلُّ واحدٍ منهم عن فعله كما رآه في مدة إقامته. فلمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلّم توضأ في بيته ووصل فيه بين المضمضة والاستنشاق وغَسْل ذراعيه مرتين، حكاه كذلك وجعله وضوءَ النبي صلى الله عليه وسلّم والذي يَذْهَل عن هذه الدقائق يَحسبُه عادةً وسُنة مستمرةً وقاعدةً مُنعقدة، ولا يدري أنه مجرد تعبير منه، لا أنَّه رأى من وضوئه مراراً، ثمَّ حقَّقَ المسألة، ثم أراد أن يذكرَها كما يذكرون المسألة، بيد أنَّه ينقل الواقعة، وهكذا يفعله الرواة في نَقْلِ سائر الوقائع، فيريدون بها حكايتها كما وقعت ولا يتعرضون إلى تخريج المسائل وهكذا فعلوا في مهر صفية رضي الله عنها فقالوا: «وجعل عِتْقَها صَدَاقها» وفعلوا مثله في حديث استقراض الحيوان بالحيوان. وسنقرره إن شاء الله تعالى. وإنَّما هو إلى الفقهاء فإِنهم يُنَقِّحُون المناطَ، ويخرِّجُون عنها الأصول، ويُفرِّعون عليها الفصول، والناس غافلون عن هذا الصنيع. فربما يأخذون المسائل عن تعبيراتهم وليس بشيء عندي. والحاصل: أنَّ وضوء النبي صلى الله عليه وسلّم عند الصحابة هو ما رأوه ولو مرةً، فهذا عبد الله بن زيد ليست عنده غير تلك الواقعة وحكاية الحال، فنقلها كما رآها، فليُفهم. إلخ عنه قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخرجنا له ماءً في تَوْرٍ من صُفْر، فغسل وجهه ثلاثاً ويديه مرتين»... إلخ. وعند أبي داود في باب الوضوء في آنية الصفر عنه قال: «جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخرجنا له ماءً في تَوْر» فدلَّ على أنَّ ما يحكي عبد الله بن زيد عن وضوئه صلى الله عليه وسلّم إنما هو واقعةٌ عنده. وعند النسائي عن أم عُمَارة أم عبد الله بن زيد ما يدلُّ على قِلة الماء في تلك الواقعة، وفيه: «أن النبي صلى الله عليه وسلّم توضأ فأُتي بماءٍ قَدْر ثلثي المُد» فكأنَّها تشير إلى ذلك. (باب قدر الذي يكتفى به الرجل من المار «نسائي») ولذا اكتفى النبيُّ صلى الله عليه وسلّم فيها في الغَسْل إلى المِرْفَقين بالمرتين فقط، فلو كان الوصلُ سنةً كاملةً لحديث عبد الله بن زيد ينبغي أن ولنا ما أخرجه ابن السَّكَن في «صحيحه» ونقله الحافظ في «التلخيص الحبير» عن أبي وائل شقيق بن مسلمة، قال: «شَهِدْت علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان توضآ ثلاثاً ثلاثاً، وأَفْرَدا المضمضة من الاستنشاق، ثم قالا: هكذا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم توضأ». وأخرج أبو داود أيضاً حديثَ وضوئهما إلاّ أنه ليس فيه التصريح بالفصل. نعم، ظاهره الفصل قطعاً، وإن كان يُتوهَّمُ من بعض الألفاظ الوصل. ثم إنَّ عثمان رضي الله تعالى عنه إنما اهتم بوضوءِ النبي صلى الله عليه وسلّم لأنَّه اختُلف في زمانه في صفة وضوئه كما في «الكنز». عن أبي مالك الدمشقي قال: حُدِّضتُ أَن عثمان بن عفان اختلف في خلافته في الوضوء، فأذن للناس فدخَلوا عليه فدعا بماء... إلخ، وهكذا فعله علي رضي الله عنه، وبَّوب أبو داود على الفصل. وأخرج تحتَه حديثاً، إلاّ أنه ليَّنَه لما فيه: ليث بن سليم. وقد جاء في شواهدِ أمَّاما في طلحة، عن أبيه، عن جده من الجهالات فرفعه الشيخ عمرو بن الصلاح وحَسَّنه. ثم تتبَّعتُ «مسند أحمد» لذلك فتبادر من وضوءِ غيرِ واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنه الفصل. والله تعالى أعلم. ثم اعلم أنَّ الروايات التي وردت فيها غَرفة واحدةً للمضمضة والاستنشاق حَمَلها النووي على الجمع بينهما ستُّ مراتٍ، كل منهما ثلاث مرات. فكأنه أراد إجراء سُنة التثليث فيها أيضاً، وهو أحدُ وجوهِ الجمع عندهم وإِن كان عسيراً، ومرَّ عليه ابن القيم وقال: بل هي محمولة على وضوئه مرة مرة، فالجمع في غَرفة واحدةٍ إنما هو في وضوئه مرةً مرةً. وفي الغَرْفتين في وضوئه مرتين مرتين، لا أنه مضمض واستنشق ثلاثاً ثلاثاً، مع غسل سائر الأعضاء مرة مرة. قلت: ما اختاره ابن القيم هو الأقربُ عندي. وليعلم أنَّ الترمذي نقلَ مذهب الشافعي كالحنفية، حيث قال: قال الشافعي رحمه الله تعالى: إن جَمَعَهُما في كَفًّ واحدٍ فهو جائز، وإن فَرَّقَهما فهو أحب. اه. قلت: ذلك رواية الزَّعْفَراني عنه، وتلك كانت بالعراق حين استفادته من محمد رحمه الله تعالى، والمعتبرُ عند الشافعية ما اختاره بعده لما رجع إلى مصر. 191- قوله: (كفة واحدة) قيل: الكُفَّة لم يثبت في اللغة بمعنى الكَفّ. وقيل: إنه فُعْلَة من نَصَر، بمعنى المرة والصواب أنه غَلَطٌ من الراوي.
|